الدولة الوطنية في العراق والانتقال السياسي
مازال العالم العربي والاسلامي يفتقر الى وجود حركة مواطنة ناضجة، لاسيما وانها تشتبك مع قضية حقوق الانسان، اذ لا يتعلق بموقف السلطة فقط ، بل مع معارضاتها أيضاً، فهناك غياب واضح في ثقافة المواطنة، التي لم تبلغ المكانة التي تستحقها في العالم العربي، ولم تصبح حقاً غير قابل للمساومة، اذ ما زالت تسبح في فضاء قديم سقفه التابعية، رغم وجود دعوات معلنة ومستترة للشرعية غير الدستورية، سواءً كانت “ثورية” أو “دينية” أو ” مذهبية” أو “عشائرية” تتجاوز على الدولة وحقوق المواطنة الجامعة.
ان تأسيس دولة مدنية بحاجة الى المحافظة على الهوية الوطنية، التي تعد من الأولويات التي يجب على الجميع أن يتسلحوا بها ، لأنها الصورة المثالية التي يجب أن يلتزم بها المواطن، ش وفي ظل المتغيرات السياسية الحاصلة في الواقع العراقي الذي يواجه الكثير من التحديات الداخلية والخارجية، تحكم العلاقات المتشعبة المفتوحة مع دول الجوار، فضلا عن النهضة العلمية والعولمة والحداثة الفكرية الحاصلة في عوالم التكنولوجيا والانترنيت التي قربت المسافات فكان لابد من وقفة للحفاظ على هويتنا الوطنية والنهوض بها .
وانطلاقا من مبدأ الحفاظ على هويتنا الوطنية باعتبار ان الهوية الوطنية هي الهوية القومية بعينها، فمن الضروري إبراز الهوية الوطنية العراقية وتفضيلها على الهويات الأخرى التي تعد مسؤولية مشتركة تقع على عاتق جميع السياسيين أفرادا كانوا او قيادات، ونتيجة للتحولات التي عاشها العراق من اضطهادات سياسية وقمعية واستمرار الحروب الدامية، والهجرات منذ عام 1958، واغتيال الملك فيصل الثاني رحمة الله، وتغييب الحوار الممكن بين مكونات الشعب العراقي , الذي يدرك جيدا انه يتوزع بين قوميات واديان ومذاهب وعشائر كان على الجميع الانصهار بثقافة العراق الوطني، لكن مع كل الأسف إذا ما نظرنا إلى دور الكتل والأحزاب والأطراف السياسية التي تشكلت بعد تغيير النظام السياسي والذي بني على أسس طائفية وقومية وعرقية متطرفة في العراق .
اننا اليوم بحاجة الى خلق هوية وطنية عراقية، عابرة للأديان والقوميات والطوائف كي تتحول هذه الأطراف السياسية نسبيا إلى أحزاب ومؤسسات مدنية متفتحة على الشعب كمواطنين، يتعاملون بروح المواطنة وعلى القائمين بها أن يدركوا معنى الشراكة الوطنية الحقيقية، لان العراق بلد متعدد القوميات، والأديان، والطوائف، والعشائر .
إن من ابرز الأمور المعقدة في وضع العراق الحالي، تقوم في كيفية إرساخ أسس العلاقة الصحيحة، بين فكرة الهوية القومية وفكرة الهوية الوطنية العراقية، وإذا كانت لكل مرحلة تاريخية أولويتها ولكل حالة سياسية مهمتها، فان أولوية فكرة الهوية الوطنية هي الحل لكل الأزمات لخلق كيان عراقي صلب .
ان العمل بمعايير وطنية حقيقية في المرحلة الراهنة، بحاجة الى صياغة مشروع وطني ذو نظام سياسي تفترض القضاء على ديمقراطية المحاصصية والتوافقية المزيفة والشراكة المغلفة بغلاف الاتحادية والفدرالية والتعددية بوصفها الوجه المحسن للطائفية والعرقية السياسية ، وتذلل الأزمة السياسية الحاصلة خاصة بعد خروج الاحتلال من العراق، وتعديلات دستورية ( دستور العراق 2005) والقوانين التي قد اصابت بشكل مباشر وغير مباشر الدولة الوطنية العراقية .
ان الشعب هو مرجعية الدولة المدنية وهو مصدر السلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، وهو مرجع الدستور وانشاء القوانين والتشريعات وهو ايضا ينبثق منه برلمان منتخب من اجل المراقبة والمحاسبة لمنفذي القوانين.
عندما بدأت الدولة العراقية الحديثة على مفاهيم ديمقراطية، لم تنبثق دولة مدنية واضحة، بسبب العنف الشديد، والتدخلات الخارجية، ولم يحظى العلماء والكفاءات والمختصين مكانة بارزة رغم انهم عامل اساسي من عوامل نهضة العراق، بالإضافة الى العزلة عن المحيط العربي والاقليمي.
وعبر تاريخ الهوية العراقية التي لها جوهر وثوابت ( اللغة / الدين ) وعناصر متغيرة من العادات والفنون والتأثير السسيوثقافية وحقوق الانسان وايضا ما مر به العراق من مرحلة تطرف والغلو في الدين ودخول الارهاب واحتلال بعض المناطق من داعش، ادت الى خروج هويات متعددة، ليست لها علاقة جغرافية او تاريخية او حتى دينية ، وبالتالي اثرت على الهوية العراقية والقوانين الجنسية وعمليات التهجير التي اثارت المسالة الطائفية .
ان الاحداث التي برزت منذ ثورة 14 تموز سنة 1958 لعدم تعديل دستور 1925 توالت كالاتي :
انقلابات متعددة سلطوية
بدء الحرب العراقية الايرانية 1980 _ 1988
احتلال الكويت سنة 1990
حرب الخليج 1991
فرض الحصار الاقتصادي والفكري حتى عام 2003
تغيير النظام السياسي والاحتلال عام 2003
كل هذه الاحداث ادت الى انتعاش بعض الهويات العراقية ( التي هي نتاج الشعور بالانتماء على اساس قومي، او اثني، او ديني، او لغوي، او عشائري، او تاريخي)، وبالتالي الابتعاد عن الهوية العامة الوطنية والهوية الكبرى المتمثلة بالهوية العراقية.
الحلول في الحالة العراقية
تكمن الحلول من خلال المساوات التامة بين جميع مكونات الشعب العراقي في الحقوق، والواجبات، والحريات العامة، وحق المشاركة، وتولي المناصب العليا، وفرض نظام تنفيذي، وتشريعي اولوياته مكافحة الفساد المالي والاداري، ومكافحة الفقر وفق استراتيجيات علمية، ومكافحة الامية والتخلف، ونزع السلاح من المجتمع.
الشراكة السياسية بعد التغيير
ان مفهوم نظرية الشراكة والمشاركة السياسية في مرحلة الدولة العراقية الحديثة، ادى الى نتائج سلبية على مستوى الدولة، والاحزاب، والنخب السياسية اضافة الى مؤسسات المجتمع المدني، بدا من سياسة التهميش والاقصاء وصولا الى الاغتيال السياسي، في الوقت الذي بدأت حرية التعبير، والعمل السياسي، والتحرك، والاختلاف في العراق الذي يمتاز بالتنوع القومي، والديني، والطائفي، والعشائري، والعرقي، لكن النتائج لم تكن بالمستوى الطموح، لان المشاركة والشراكة لم تكن حقيقة، وفاعلة بكل مكونات الشعب العراقي، بل انها اصبحت شعار واسع للمحاصصة الطائفية، والقومية، والمذهبية في مؤسسات الدولة، وهذا ما كان واضح في مجلس النواب العراقي، بعدم تمرير قانون الا بتمرير قانون اخر معه، ولا تعيين شخص في موقع من مواقع الدولة العليا الا بصفقة واحدة مع تعيين اشخاص اخرين.
من هذا المنبر نشير كمجموعة من ناشطات المجتمع المدني، ومدافعات عن حقوق المرأة المدنية، والسياسية بان ضعف شراكة المرأة العراقية في صنع القرار السياسي، والمشاركة الحقيقة في السلطة التنفيذية، والحكومات المتعددة، اكبر دليل لخسارة طرف رئيسي فاعل، ومؤثر في ان يلعب دورا في استقرار وامن المناطق، وخلق حالة من التنمية الاقتصادية والبشرية والفكرية الغير مغوصة .
ان مبدأ المساواة بين الجنسين المنصوص عليه بالقران الكريم وجميع الكتب السماوية وحتى القوانين الدولية والدستور العراقي، يتطلب ازالة اشكال التمييز والتهميش والاقصاء للمرأة العراقية من مرحلة بناء الامن والسلام الاهلي، خاصة في المناطق التي احتلت من داعش، والفقيرة المهمشة في وسط وجنوب العراق .
ان العمق الاستراتيجي لدول جوار العراق، والحفاظ على عدم التدخلات الاقليمية لكافة دول المنطقة يؤدي الى خلق مصالح واتفاقيات مشتركة تبنى على المصالح المتبادلة وتقلل من التدخلات الدولية وتصبح ضرورة اقليمية في محاربة الارهاب الذي توسع في العراق وسوريا.
وتبقى في الاخير مفاهيم الاستقلال والشراكة الحقيقة وتماسك الهوية مفتاح للأمن والاستقرار والتعاون الاقليمي